على المصارف إجراء الملاحقة القانونية لإعادة أموال المودعين والمطلوب خبرات صندوق النقد وليس أمواله
بعد أن كان القطاع المصرفي اللبناني من أكبر القطاعات المصرفية العربية والعالمية بالنسبة إلى حجم الإقتصاد الوطني، حيث بلغت الأصول المجمّعة له في 2018 حوالي 4 أضعاف الناتج المحلي الإجمالي الإسمي للبنان، تعرض في أواخر الـ 2019 لانتكاسة هي الأكبر في تاريخه، بعد أزمة أطاحت به وبمدخرات المواطنين، فمن المسؤول؟
مجلتنا التقت المحامي الدكتور أنطوان صفير، أستاذ في القانون في الجامعة الأميركية في بيروت وفي جامعة القديس يوسف، والمحامي في نقابة باريس الذي حدثنا عن المقاربة القانونية للأزمة، وكان لنا معه هذا الحوار:
1- برأيكم، هل كان بالإمكان تجنب أزمة 2019، وكيف؟
بالتأكيد كان بالإمكان استشراف الأزمة وتجنبها. فمنذ نهاية الحرب اللبنانية والوصول الى إتفاقية الطائف، كان من المفترض أن تقوم الدولة بعمل تقييم دوري للإقتصاد لمعرفة وضعية المصارف والمالية العامة للدولة والإصلاحات التي يجب تطبيقها حتى يبقى الوضع المالي والإقتصادي سليماً ومستقراً، مع العلم أن مؤتمر باريس 2 كان دقّ جرس الإنذار وطالب بتطبيق العديد من الإصلاحات، وأبرزها خفض حجم القطاع العام، الا أن العكس هو ما حصل، ففي 2018 على سبيل المثال، ورغم أن كان هناك قرار بعدم التوظيف، وُظّف آلاف الأشخاص في شبه رشوة إنتخابية، قبيل الإنتخابات مباشرة. ولم تكتف السلطة بذلك بل قامت بزيادة رواتب القطاع العام عبر سلسلة الرتب والرواتب، والتي قيل إنها كلفت الدولة أكثر من 2.2 مليار دولار، وهذا رقم ضخم بالنسبة لدولة غير منتجة وغارقة بالديون.
وحتى بعد وقوع الأزمة كان بالإمكان تجنب الإنهيار المتسارع، عبر وضع خطة طورارئ، للملمت الوضع وتحجيم أضراره، خصوصاً أن كان لدينا العديد من المقوّمات التي تساعدنا على ذلك. فبداية كان يجب تطبيق قانون الكابيتال الكونترول بشكل فوري، بدل السماح لبعض الأشخاص المحظيين بأن يهرّبوا أموالهم والتي تقدّر بمليارات الدولارات الى الخارج، بينما أموال الناس بقيت عالقة في لبنان، وهي اليوم لا تساوي أكثر من 20% من قيمتها0
وثانياً، كان من المفترض عدم الدخول بنوع من مهادنة للأزمة، والغوص بمتاهة التعاميم التي بات يصدرها المصرف المركزي مثل منصة صيرفة وغيرها والتي قضمت أيضاً الكثير من أموال المودعين بشكل غير مشروع، كما أنها خلقت عدّة أسعار للصرف، وهنا دخلنا بفوضى نقدية كنا بغنى عنها، حيث كان بإمكننا استعمال الإحتياطي الضخم من العملات الأجنبية بحكمة أكبر بدل هدره على الدعم الذي تبين أن أكثر المستفيدين منه هم التجار والمهربون والأغنياء وكافة الجنسيات المقيمة على الأراضي اللبنانية وليس المواطن اللبناني.
واليوم لو أن كل الأموال التي هرّبت الى الخارج وهدرت على الدعم، تمّ الحفاظ عليها لما كان كان سعر صرف الليرة انحدر بهذا الشكل الرهيب، كما كان بالإمكان إعادة جزء لا بأس به من الودائع بطريقة أكثر عدالة.
2- هل هناك اليوم أي إمكانية لمحاسبة المرتكبين، أم أن حقوق المودعين والشعب قد هضمت؟
سمعنا بفضائح كبيرة، حيث أن العديد من أصحاب النفوذ حوّلوا أموالا ضخمة الى الخارج بعد الأزمة، ولكن للأسف ليس هناك قرار بالمحاسبة، فالوضع يشبه لعبة الدومينو، وإذا وقع أحدهم فسوف يقع الجميع، وهذا غير مطلوب حتى الساعة.
ومن ناحية أخرى لم نرى أحداً من المودعين قد حصل على حقّه، لأن دور السلطات القضائية مربك. واليوم لا يمكن لأحد من هذه التركيبة الثلاثية وهي الدولة ومصرف لبنان والمصارف، أن يحيّد نفسه، فالناس أودعوا أموالهم لدى المصارف التي أودعتها لدى مصرف لبنان بسبب الفوائد المرتفعة التي كانت تحصل عليها من الهندسات المالية وغيرها، ومصرف لبنان أعطاها للدولة التي أهدرتها على السرقة والفساد، والنتيجة أن الناس خسروا أموالهم ومدخراتهم ومستقبلهم وأحلامهم وباتوا يعيشون في قهر مميت.
إذاً هذه كارثة إقتصادية وإجتماعية كبيرة، وليس دور المواطن أو المودع أن يعرف من هو المسؤول، بل هذا دور القضاء أن يعيد أموال وحقوق الناس، لكنني اليوم أشك أن يحصل ذلك.
3- لكن هل المصارف ملزمة قانونياً بإعادة أموال المودعين من أصولها وممتلكاتها؟
حسب قانون النقد والتسليف فإن رؤساء وأعضاء مجالس إدارات المصارف، هم المسؤولون مباشرة عن إعادة أموال المودعين من أصول وممتلكات مصارفهم أولاً ومن بعدها من أصولهم وممتلكاتهم الخاصة، فالمودع أودع أمواله لدى المصارف التي يجب عليها هي أن تلاحق مصرف لبنان والدولة قانونياً إن كانت تعتبر بأن هناك غبناً أصابها، ولا يمكنها التذرع بأنها ألزمت على إقراض الدولة.
واليوم تقترح المصارف خطة لإعادة أموال المودعين عبر رهن أملاك الدولة واستثمارها لمدّة 10 سنوات، وأنا أقول إذا كان قرار الدولة اليوم ليس بيدها، فمن يصدق أنه بعد 10 سنوات ستبقى هكذا خطة إذا طبقت سارية المفعول؟ فاليوم لا يمكن معالجة الوضع من دون محاسبة المرتكبين، عبر تطبيق تدقيق جنائي حقيقي في كافة القطاعات من مصرف لبنان الى الكهرباء الى المؤسسات العامة والصناديق وغيرها، ولكن طالما أن طبقة البزنس السياسي ما زالت متحكمة فإن النتائج سوف تكون كارثية.
والآن نتمنى أن يأتي رئيس جمهورية لديه مشروع إصلاحي حقيقي، من أهم بنوده إعادة دور القضاء، والا فإن البلد سيتجه الى سيناريوات دول وصلت الى المجاعة، رغم أن لديها الكثير من الخيرات لكنها كانت رهينة الفساد وعدم المحاسبة، ومن المعيب على لبنان أن يصل الى هذا الوضع.
وهنا نأسف أن لبنان الذي كان صاحب هوية إقتصادية مميزة في العالم العربي والعالم بسبب قوانينه المصرفية مثل قانون السرية المصرفية وقانون النقد والتسليف والتي استطاع من خلالها جذب هذا الكم الضخم من رؤوس الأموال اللبنانية والعربية والأجنبية، كما أنه بقي صامداً حتى في أحلك أيام الحرب ووجود جيوش الإحتلال والميليشيات، نأسف أن يقع اليوم البلد والقطاع المصرفي فيه في هذه الكارثة الإقتصادية منذ أن تمّ السطو على أموال الناس من دون وجه حقّ. وأنا أشبه ما حصل في القطاع المصرفي في لبنان بما حصل بعض الدول حيث الفساد وعدم المحاسبة أدّيا الى ضياع أموال المودعين.
4- هل أنتم مع فكرة الدخول بخطة إصلاحية بإشراف صندوق النقد الدولي؟
نحن بحاجة اليوم الى إشراف صندوق النقد الدولي على خطة إصلاحية متكاملة للبلد، من خلال الخبرات التقنية والتوصيات الأساسية التي يمكن أن يقدموها لنا، إضافة الى أن التعاون مع صندوق النقد يعيد ثقة من المجتمع الدولي بالبلد، الا أننا لسنا بحاجة الى أي مساعدة مادية من الصندوق، فنحن بلد منهوب وليس فقيرا، وحتى أن مبلغ الـ 3 مليار دولار الذي سنحصل عليه في أحسن الحالات، ما هو الا مبلغ زهيد مقابل ما تم هدره من أموال وصلت الى حوالي الـ 20 مليار دولار منذ بداية الأزمة، كما أن مبلغ الـ 3 مليار هو في النهاية دين إضافي ولن نحصل عليه الا بعد أن يضعوا علينا شروطاً قاسية سترتب على المواطنين المزيد من الضرائب والأعباء، في وقت يعيش فيه الناس في ضائقة إجتماعية كبيرة.